فصل: تفسير الآيات (5- 8):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: التفسير القرآني للقرآن



.تفسير الآيات (5- 8):

{مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)}.
التفسير:
قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ}.
مناسبة هذه الآية لما قبلها، هي أن الآيات السابقة أشارت إلى الأميين الذين يتعالى عليهم اليهود، الّذين رأوا فيما أنزل اللّه عليهم من كتب، وبما بعث فيهم من رسل- أنهم قد اختصّوا بفضل اللّه، من دون الناس جميعا، وقد جاءت الآيات لتبطل زعمهم هذا، فقد بعث اللّه في الأميين رسولا، وأنزل عليه كتابا يتلوه عليهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة، ثم إنه سبحانه، لم يجعل هذا الفضل، وتلك الرحمة إلى العرب وحدهم، بل جعل ذلك للأميين جميعا من العرب وغير العرب- ثم جاء قوله تعالى: {مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ الآية} جاء مخزيا اليهود، ومبطلا ادعاءهم، بأنهم قد استأثروا بفضل اللّه.
ونعم، إن اللّه قد ساق إليهم فضلا، وأنزل إليهم التوراة فيها هدى ونور.. ولكن ليس كلّ من كانت بين يديه نعمة، مستفيدا منها، بل إنه كثيرا ما تكون النعمة نقمه حين لا تجد من يحفظها، ويرعاها حقّ رعايتها.
إنها تكون حينئذ أشبه بالغيث يقع على الأرض السبخة فلا تستجيب له، ولا تتفاعل معه، وسرعان ما يفسد، ويتحول إلى ماء آسن، ينبث في أحشائها الهوامّ والديدان.
وهؤلاء اليهود، قد حمّلوا التوراة، وكلّفوا العمل بها، ولكنهم لم يحسنوا العمل، بل اختلفوا فيها، وتأولوها تأويلا فاسدا.. فكان مثلهم في هذا كمثل الحمار، يحمل كتبا، تثقل ظهره، وتصبح علة ملتصقة به، دون أن يفيد منها شيئا.
وفى تشبيه اليهود- حملة التوراة- بالحمار الذي يحمل أسفارا، ما يكشف عن طباع هؤلاء القوم، وعن بلادة حسّهم، وعن قبولهم الهوان والذلّة، وأنهم في هذه الدنيا أشبه بالحمر، يسخرها الناس للحمل والركوب.. فالحمار من بين حيوانات الركوب جميعا، أكثرها هوانا على الناس، وأخسّها مطية للركوب.
لا يتخذه كرام الناس مركبا لهم.. وفى هذا يقول الشاعر:
ولا يقيم على ضيم يراد به ** إلّا الأذلّان عير الحىّ والوتد

هذا الخسف مربوط برمّته ** وذا يشجّ فلا يرثى له أحد

ولا يفترنّ أحد بما يبدو في ظاهر الأمر من أحوال اليهود، ومن ظهور بعض العلماء فيهم، ومن تمكنهم من كثير من المرافق العاملة في الحياة فهذا كلّه ثمن للهوان الذي استساغوا طعامه، تماما كما يزيّن بعض الحمير أحيانا بألوان من الزينة، بما يصطنع له من سرج القطيفة، ولجم الفضة، فلا يرفع ذلك من قدره، ولا يخرجه من بنى جنسه.. فهو الحمار أيّا كانت الحلية التي يتحلّى بها.
وإنه لو وضع أعلم اليهود، علمه تحت نظر فاحص دارس، لما رأى منه الناظر إليه إلّا غباء وجهلا، وإن هذا العلم مهما بلغ لا يعدو أن يكون ثوبا اختطفه، أو سرقه، أو ألقى به عليه غيره، ممن لا يريد أن يظهر في الناس بهذا العلم، الذي كثيرا ما يكون منحرفا، مصادما للعقائد، والأخلاق.
وقوله تعالى: {بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ} أي بئس هذا المثل، وهو الحمار، مثلا لهؤلاء القوم الذين كذبوا بآيات اللّه.
وقد وقع الذّمّ على المثل، ولم يقع على المماثل، وفى هذا مبالغة في الذمّ للماثل، لأن الذي وقع عليه الذم إنما استحق الذّم في هذا المقام بسبب من مثل به.. فكأن هذا الشيء المذموم لم يكن مذموما حتى اقترن بهذا الممثّل به، فأصابه منه هذا البلاء الذي استوجب ذمّه.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ} إشارة إلى أن هؤلاء القوم إنما تخبطوا في الضلال، وعموا عن الانتفاع بما في التوراة التي يحملونها، لأنهم كانوا ظالمين، معتدّين حدود اللّه، فتركهم اللّه في ظلمات يعمهون.
قوله تعالى: {قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ}.
الذين هادوا، هم اليهود، وأصله من الهود، وهو الرجوع برفق، وسمى اليهود يهودا، لأنهم رجعوا إلى اللّه تائبين، بعد أن عبدوا العجل، كما جاء في في قوله تعالى على لسان موسى {وَاكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ} [156: الأعراف].
ثم لزمهم هذا الاسم، ولعنهم اللّه وهم معروفون به.
فالخطاب في الآية الكريمة موجّه من النبي- صلى اللّه عليه وسلم- إلى اليهود، بأمر ربه، ليقول لهم: إن صحّ ما زعمتموه، من أنكم أولياء للّه من دون الناس، وأن اللّه سبحانه وتعالى قد اختصكم بالفضل والإحسان، حتى لقد قلتم إنكم أبناء اللّه وأحباؤه- إن صحّ زعمكم هذا، فتمنّوا الموت واطلبوه، إن كنتم صادقين فيما تزعمون.. فإن هذا الموت سيصير بكم إلى اللّه الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأبناؤه وأحباؤه.. والولىّ إنما يشتاق إلى لقاء وليّه، والابن إنما يسعى إلى لقاء أبيه، والحبيب إنما يشوقه لقاء من أحب.. فلم لا تتمنون الموت، ولا تطلبونه، وهو السبب الذي يصلكم اتصالا مباشرا باللّه، الذي تزعمون أنكم أولياؤه وأحباؤه من دون الناس! إن هذا ادعاء كاذب منكم، ونفاق تنافقون به أنفسكم، إذ لو كنتم مؤمنين بما تزعمون، لما فزعتم من الموت، ولما حرصتم على الحياة هذا الحرص الذي جعل منكم أجبن الناس، وأشدهم فرارا من لقاء العدو.
وفى هذا يقول اللّه تعالى: {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ} [96: البقرة].
وهذا لا يكون إلا من إنسان يرى الموت نهاية لوجوده، أو يرى أن وراء الموت أهوالا تنتظره، بما قدمت يداه من آثام.
قوله تعالى: {وَلا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ}.
هو بيان للعلّة التي من أجلها يحرص اليهود على الحياة، ويفزعون من الموت، وأنهم لا يتمنون الموت أبدا، لما يعلمون من أنفسهم أنهم على ضلال، وأنهم لن يجدوا في الآخرة إلا البلاء والهوان.. شأنهم في هذا شأن إبليس الذي يعلم أن مصيره إلى عذاب اللّه، وأنه إنما سأل اللّه أن ينظره، وأن يؤخر عنه العذاب الذي توعده به، فرارا من هذا العذاب، ودفعا له من يومه إلى غده.
قوله تعالى: {قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ}.
أي أن هذا الموت الذي تحذرونه، وتفرون من ملاقاته، هو ملاقيكم حتما، ولن تفروا منه أبدا.. ثم إنّ وراء هذا الموت رجعة إلى اللّه، وحسابا، وعقابا، وسترون أعمالكم المنكرة حاضرة بين أيديكم، وسينزل بكم العذاب الذي أنتم أهل له.

.تفسير الآيات (9- 11):

{يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)}.
التفسير:
قوله تعالى: {يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ}.
مناسبة هذة الآية لما قبلها، هي أن السورة قد بدأت بذكر هذه النعمة العظيمة التي أنعم اللّه بها على المؤمنين، إذ بعث فيهم رسولا منهم، يتلو عليهم آيات اللّه، ويزكيهم، ويعلمهم الكتاب والحكمة.. وهذه النعمة العظيمة لا تثمر الثمر الطيب الذي تحمله إلا إذا صادفت من يرعاها، ويعرف قدرها، وإلّا انقلبت هذه النعمة نقمة على أهلها، فحوسبوا على تضييعها، ووقعوا تحت طائلة العقاب الأليم، كما وقع ذلك لليهود الذي حمّلوا التوراة، ثم لم يحملوها، فكان مثلهم مثل الحمار يحمل أسفارا، وقد أوعدهم اللّه سبحانه بما توّعد به الظالمين- فناسب أن يجيء بعد هذا، أن ينبّه المسلمون إلى ما ينبغى أن يكون منهم لرعاية هذه النعمة التي أنعم اللّه بها عليهم، وكان أول ما نبهوا إليه، هو الصّلاة، إذ كانت الصلاة عماد الدين، وكانت الركن الأول من أركانه، بعد الإيمان باللّه.. وإذ كانت صلاة الجمعة أظهر صلاة في أيام الأسبوع، لأنها الصلاة الجامعة، التي لا تصحّ إلا في جماعة- فقد كان الإلفات إليها إلفاتا إلى الصلوات المفروضة كلّها.
وقوله تعالى: {إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ} أي إذا جاء وقتها، وأذّن المؤذن بها.
وقوله تعالى: {فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ} أي بادروا وأسرعوا إلى ذكر اللّه، أي الصلاة، لأنها تذكّر باللّه، وتصل العبد بربه.. ومن ذكر اللّه في صلاة الجمعة، الخطبة وما فيها من عظات تذكر باللّه.
وقوله تعالى: {وَذَرُوا الْبَيْعَ} أي اتركوا البيع، والشراء، وكلّ ما يشغلكم من عمل.. حتى تفرغوا للصلاة، جسدا، وروحا.
وقوله تعالى: {ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ} الإشارة إلى السعى للصلاة، وترك كل ما بين يدى الإنسان من عمل.. فذلك السعى خير من كلّ ما كان يحصّله الإنسان من عمله الذي بين يديه، وذلك مما لا يعلمه، ويعلم قدره إلا أهل العلم، من المؤمنين، المستيقنين من واسع الفضل، وعظيم الإحسان، عند اللّه.
قوله تعالى.
{فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
هو دعوة إلى العمل، وإلى السعى إليه، كما سعى المؤمنون إلى الصلاة.
فالسعى إلى العمل، أداء لحقّ النفس، وحقّ الأهل والولد، كما أن السعى إلى الصلاة أداء لحق اللّه سبحانه وتعالى، وكلا الحقّين واجب الأداء، فمن قصّر في أحدهما، حوسب عليه حساب المقصّرين.
وفى قوله تعالى: {فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ} دعوة إلى أن يملأ المسلمون وجوه الأرض، سعيا وعملا، وأن يأخذوا بكلّ ما يمكّن لهم منها، ويقيم لهم فيها المقام الكريم، وألا يقصروا جهدهم على جانب منها، أو في ميدان من ميادينها، بل ينبغى أن يكون لهم في كل ميدان مجال، وفى كل موقع عمل.
وفى الدعوة إلى الانتشار في الأرض بعد الاجتماع بين يدى اللّه في الصلاة- في هذا جمع بين العبادة والعمل، وبين ذكر اللّه والسعى في الأرض.. فقد جاءت الدعوة من اللّه سبحانه لصلاة الجمعة، موجهة إلى من هم مشغولون بالعمل، ساعون لطلب الرزق، وإن كانت الدعوة عامة إلى كل من تجب عليه صلاة الجمعة.. ثم جاء الأمر إلى هؤلاء الذين حضروا الصلاة- أن ينتشروا في الأرض، ويبتغوا من فضل اللّه، بعد أن تزودوا بهذا الزاد الطيب من ذكر اللّه، وبذلك يستقيم لهم الطريق، وتفتح لهم أبواب الرزق الطيب المبارك.
وفى قوله تعالى: {وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} إشارة إلى هؤلاء المنطلقين للعمل، الساعين إلى الابتغاء من فضل اللّه، أن يذكروا اللّه دائما، وأن يستحضروا جلاله وعظمته، في كل حال، لا في وقت الصلاة.. ففى ذلك فلاح أي فلاح، حيث يجد الذاكر للّه سبحانه وتعالى، حارسا يحرسه من وساوس الشيطان، وأهواء النفس، فلا يتعثر، ولا ينحرف، ولا يزلّ.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَتَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ}.
اللهو: ما يشغل الإنسان من هزل الأمور عن جدّها.. والانفضاض:
التفرّق في عجلة، وفى غير نظام.

.سورة المنافقون:

نزولها: مدنية عدد آياتها: إحدى عشرة.. آية عدد كلماتها: مائة وثمانون.. كلمة عدد حروفها: سبعمائة وستة وسبعون.. حرفا.
مناسبتها لما قبلها:
كان ختام سورة الجمعة كاشفا عن وجه من وجوه المنافقين، الذين كانوا يشهدون صلاة الجمعة مع النبيّ، حتى إذا سمعوا لهوا، أو أحسّوا قدوم تجارة، أسرعوا إلى هذا اللهو، أو تلك التجارة، دون أن يشعروا بأنهم بين يدى النبيّ، وفى مقام ذكر اللّه.. لأن قلوبهم خالية من هذه المشاعر التي تصلهم باللّه، وبرسول اللّه.. إنهم ما جاءوا رغبة في مرضاة اللّه، ولا شهودا لذكر اللّه، وإنما جاءوا حتى يراهم المؤمنون أنهم على الإيمان باللّه، مداراة لنفاقهم، وسترا لكفرهم.. ثم إنهم ما إن تهبّ عليهم سحابة ريح من أي اتجاه، حتى تعرّبهم من هذا الثوب الزائف الذي لبسوه، ودخلوا به في زمرة المؤمنين- وقد ناسب ذلك أن تجيء سورة المنافقين، في أعقاب سورة الجمعة لتكشف عن أكثر من وجه من وجوه النفاق.. كما سترى ذلك، فيما حدّثت به السورة عن النفاق والمنافقين.
هذا، ويلاحظ أن ما جاء في ختام سورة الجمعة عن المنافقين قد جاء تلميحا.. وأن ما جاءت به سورة المنافقين عنهم- كان تصريحا يكشف عن هذا التلميح.. وهذا من أروع وأعجب ما يرى من إعجاز القرآن، حيث يمسك ختام سورة الجمعة، وبدء سورة المنافقين بالصورة الكاملة للمنافقين، في ظاهرهم وباطنهم جميعا.. فهم في الظاهر مؤمنون، يشهدون مشاهد المؤمنين في الصلاة وغيرها، وهم في الباطن منافقون، كاذبون!
بسم اللّه الرحمن الرحيم.

.تفسير الآيات (1- 6):

{إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4) وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6)}.
التفسير:
قوله تعالى: {إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ}.
أي أن المنافقين، إذا جاءوا إلى النبي، وحضروا مجلسه، نطقت ألسنتهم بغير ما في قلوبهم، وقالوا للنبى من غير أن يطلب منهم قول، وشهدوا من غير أن يستدعوا للشهادة {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} مؤكدين هذا القول بأكثر من مؤكّد.. وفى هذا كله ما ينطق عن أنهم كاذبون منافقون.. فالمؤمن إيمانا حقّا، لا يجد في نفسه ما يحمله على أن يعلن في كل وقت، عن إيمانه.. فهو منذ آمن عرف في الناس بأنه من المؤمنين، فلا يحتاج بعد هذا إلى أن يردّد على الأسماع، مبادئا كلّ من يلقاه، بأنه مؤمن.. ثم إن الصادق في قوله لا يحتاج إلى أن يبرر صدقه بالحلف، أو توكيد ما يخبر به، وإنما يفعل ذلك من هو متهم- فيما يخبر به- عند نفسه، متّهم عند الناس، وأنهم يرون منه حقيقة ما يراه في نفسه.
والمنافقون، لا يؤمنون بأن الرسول هو رسول اللّه، ولو كانوا على الإيمان بأنه رسول اللّه لما وقع النفاق في قلوبهم.. ولهذا- فهم لكى يبرئوا أنفسهم من تهمة النفاق- التي يتهمون بها أنفسهم قبل أن يتهمهم أحد- يبادرون إلى لقاء النبي، مؤكدين له بأنهم يشهدون أنه رسول اللّه: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}!! وقد ردّ اللّه سبحانه عليهم شهادتهم تلك- وإن كانت تقول الصدق- لأنها خرجت من أفواه لا تقول إلا الزور من القول، وأن كلّ قول تقوله، إذا كشف عن حقيقته، وأزيل عنه هذا الطلاء الزائف- كان سرابا خادعا.
ولهذا جاء قوله تعالى: {وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ} ليقيم مكان قولهم الزائف قولة الحق، من الحق سبحانه وتعالى في رسوله.. ولهذا أيضا وقع التطابق اللفظي بين قولهم: {إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ} وقوله تعالى: {إِنَّكَ لَرَسُولُهُ}.
{بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ}.
وقوله تعالى: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ} هو في مقابل قولهم: {نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ}.
فقد شهد اللّه عليهم بأنهم كاذبون في حقيقة ما يقولون، إذ كان ما يقولونه على خلاف ما يعتقدون، وكان ما يجرى على ألسنتهم مكذّبا لما في قلوبهم.
قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ}.
الجنة: السّنر الذي يجنّ، أي يستر من يستجنّ به.. وبه سمى الدرع مجنّا، لأنه يحمى لابسه من أن تناله الطعنات في الحرب.
ومنه الجنون، لأنه يستر عقل صاحبه من أن يرى حقائق الأمور.
أي أن المنافقين- لما يشعرون به من أنهم كاذبون فيما يقولون- يحاولون دائما أن يبرروا أقوالهم ويزكوها بالحلف، كى تقع من النفوس موقعا، ولو أنهم كانوا صادقين فيما يقولون، لما لزمهم أن يحلفوا، لأن الصدق مستغن بذاته عن أي مبرر يبرره، وينزله منزلته من العقول والقلوب.
وقوله تعالى: {فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} هو تعقيب على قوله تعالى: {اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً} والفاء للسببية، أي أنهم بسبب ما نسجوا للكذب من أيمان فاجرة، بدا لهم أن هذا النسيج يستر نفاقهم، ولهذا صدّوا عن سبيل اللّه، واتخذوا سبيلا غير سبيل المؤمنين، وهم على ظنّ بأن أحدا لن يراهم، على غير طريق الإيمان، وهم مستجنّون بهذه الأيمان التي بذلوا لها بسخاء، في معرض الإخبار عن أنهم مؤمنون باللّه ورسوله.
وقوله تعالى: {إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ} هو حكم من اللّه سبحانه وتعالى على أعمالهم، بأنها أعمال سيئة، لا تعقب إلا سوءا، ولا تجرّ على أصحابها إلا الحسرة والندامة.
وقد وقع الوصف بالسوء على الأعمال، لأن الأعمال هي التي تظهر على محكّها الأقوال.. أما الأقوال، فما أكثر ما تخالفها الأعمال.. فقد يكون القول في ظاهره حسنا جميلا، على حين يكون العمل من ورائه سيئا خبيثا.. وإنه لن يكون عمل طيب، إلا وكان معه القول الطيب! لأن القول أخفّ مئونة من العمل، ولهذا كانت الأعمال، هي مناط الحساب والجزاء.
قوله تعالى: {ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ}.
أي ذلك النفاق الذي فيه هؤلاء المنافقون، هو بسبب أنهم آمنوا، ودخلوا في تجربة مع الإيمان، فلم يجد له مكانا في قلوبهم، فلفظوه كما تلفظ المعدة المريضة الطعام الطيب، وبهذا رجعوا إلى الكفر الذي لم تبعد الشّقة بينهم وبينه.
وقوله تعالى: {فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ} أي ختم على قلوبهم بأنها لا تقبل الإيمان، ولا تستجيب له، فقد امتحنت من قبل بالإيمان امتحانا كشف عن معدنها، وأنها لا تلتقى بالإيمان، ولا تسكن إليه.
إن من يلتقى بالإيمان يوما، ويعيش معه زمنا، ثم يفارقه- لن يكون بينه وبين الإيمان لقاء على مودة أبدا.. ذلك أن القلب الذي يدخله الإيمان، ثم يخرج منه- لن يعود إليه بحال، إنه فراق إلى غير لقاء.. وهذا يعنى أن الإيمان سهل المورد لمن هو من أهله، أما من لم يكن من أهل الإيمان فلن يقبله، وإن قبله فإنه سرعان ما يرفضه، لأنهما على طبيعتين مختلفتين. وهيهات أن يقع ائتلاف بين ما اختلف من الطبائع أصلا.
وأما ما جاء في قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا} [137: النساء]- فإنه يشير إلى هذا التردّد بين الإيمان والكفر من بعض النفوس، التي تكون على طبيعة ليست على الإيمان، ولا على الكفر، وإنما هي خليط منهما، يتنازعها الإيمان مرة، والكفر مرة، حتى تستقر على أىّ منهما.. وهؤلاء الذي آمنوا، ثم كفروا، ثم آمنوا، ثم كفروا، ثم ازدادوا كفرا- إنما هم الذين غلب جانب الكفر فيهم جانب الإيمان، ورجحت فيهم كفته، فانتهى أمرهم إلى كفر غليظ، بعد هذه المعاناة، وتلك التجربة المتعددة.. وأما من ينتهى بهم هذا التردد إلى الإيمان، فإنهم ينتهون إلى إيمان ثابت راسخ، كما انتهى المترددون قبلهم إلى كفر غليظ.
وقوله تعالى: {فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ} أي أنهم بسبب هذا الطبع الذي طبع به على قلوبهم بعد خروج الإيمان منها بعد أن دخلها- إنهم بسبب هذا الطبع، لا يفقهون حقيقة الإيمان بعد هذا، ولا تنفتح له مغالق قلوبهم.
قوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ}.
هذه صورة للمنافق تمثل ظاهره، وباطنه جميعا.
فالمنافق متجمل في ظاهره، مجتهد في تزويق هذا الظاهر، وفى طلائه بالألوان الزاهية، حتى يخدع الناس عن باطنه الذي يعلم هو فساده أكثر مما يعلم الناس منه.. ولهذا فهو يبالغ في تسوية مظهره، وفى تجميله حتى يستر بهذا الزيف ما يخفى باطنه، وحتى يغطّى بهذا البخور الذي يطلقه على هذا العفن الذي يفوح منه.
فقوله تعالى: {وَإِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ}.
بيان لما تقع عليه العين من ظاهر المنافقين، فيما يبدو من تسوية هندامهم، وحسن زيّهم.
وقوله تعالى: {وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ} بيان لما يتجمّل به حديثهم، من طلاوة الأسلوب، وتأنق العبارة، ورقة اللفظ.. وهذا ضرب من الخداع والتزييف، حيث يدسّ السمّ في العسل، وحيث تروج العملة الزائفة بلمعانها وبريقها.
وقوله تعالى: {كأنهم خشب مسندة} إشارة إلى أن هذا الذي يبدو من المنافقين من حسن المظهر، ورقة الكلام، ونعومة اللفظ- لا يعدو هذا الظاهر من القوم.. إنهم أشبه بالخشب المسندة، لا حياة فيها، ولا وزن لها، وإن زينت بالحلى، وكسيت بالحرير.. ثم إن المنافقين، وإن بدوا في ظاهرهم على صورة واحدة، فإنهم في حقيقتهم، أشتات متفرقون، لا تجمعهم مشاعر الودّ، ولا تؤلف بينهم صلات هذا المعتقد الفاسد الذي يدينون به.. تماما كالخشب المسندة، كل كتلة منها قائمة إلى جوار غيرها، لا تشعر بها، ولا تحس بوجودها.
وقوله تعالى: {يحسبون كل صيحة عليهم} هو وصف كاشف لما يموج به باطن المنافقين من وساوس، وتصورات، لا تقيمهم أبدا إلا على فزع، وتخوف، لأنهم دائما متلبسون بجرائم من الكذب والبهتان، فهم لهذا مطاردون من أنفسهم، يريدون الإفلات من قبضة هذه المشاعر المستولية عليهم، ولهذا أيضا تراهم على حذر، وتوقّع لتلك الأيدى الكثيرة الممتدة إليهم، تحاول أن تدهمهم في أية لحظة.. {يحسبون كل صيحة عليهم}.
سواء اتجهت إليهم أو لم تتجه، وسواء أكانوا هم المقصودين بها أم غيرهم.. وهكذا المجرم، لا يفارقه أبدا وجه جريمته، في يقظة أو منام.
كأن فجاج الأرض وهى عريضة ** على الخائف المكروب كفّة حابل

وقوله تعالى: {هُمُ الْعَدُوُّ} خبر كاشف عن حقيقة هؤلاء المنافقين، وأنهم على ما يبدو منهم، من ظاهر مغلّف بالتلطف والتودّد- هم العدوّ، الذي تتجسم فيه العداوة كلها، حتى لكأنهم العدوّ وحدهم للنبىّ، دون الناس جميعا.
وقوله تعالى: {فَاحْذَرْهُمْ} هو تعقيب على هذا الخبر عن المنافقين، وأنه إذ علم أنهم هم العدوّ الذي يخفى وراء ظاهره، كيدا، ويضمر في باطنه سوءا- فيجب الحذر منهم، والحيطة من الأمان لهم، والاتهام لكل قول يقولونه، أو ودّ يظهرونه.
وقوله تعالى: {قاتَلَهُمُ اللَّهُ}.
هو دعاء عليهم، يحمل التهديد لهم من اللّه سبحانه وتعالى، بأنهم في معرض النقمة من اللّه، وأن حربا من اللّه أعلنت عليهم، وأنه ليس وراء حرب اللّه لهم إلّا الهلاك المبير، والخسران المبين.
وقوله تعالى: {أَنَّى يُؤْفَكُونَ} استفهام يراد به الإنكار عليهم لهذا الطريق الذي أخذوه إلى مواقع الضلال.. أي كيف يصرفون عن الحق إلى الباطل، وعن الهدى إلى الضلال.
قوله تعالى: {وَإِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ}.
أي أن من أمارات هؤلاء المنافقين، أنهم إذا دعوا إلى طريق الحقّ نفروا، وإذا نصح لهم ناصح بأن- يعرضوا أنفسهم على رسول اللّه ليستغفر لهم- {لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ}.
أي أداروا رءوسهم، يمينا وشمالا، في حركة مجنونة، حتى لكأنهم إنما يتعاطون شرابا مرّا لا يجدون له مساغا.. ثم إنهم لا يقفون عند هذا الذي كان من لىّ رءوسهم عند سماعهم لدعوة من يدعوهم إلى رسول اللّه ليستغفر لهم.. بل إنهم بعد أن تذهب عنهم آثار هذه الصدمة، يأخذون طريقا غير الطريق المتجه إلى الرسول، ويمعنون في الصدود والخلاف، عنادا واستكبارا.
وقد يبدو من العجب أن يجتمع الكبر، والجبن، في كيان المنافقين.
ولكن مع قليل من النظر، يتضح أن هذا هو التركيب الطبيعي للمنافق، الذي لا يكون محققا لصفة النفاق حتى يجمع بين المتضادات.. الإيمان، والكفر.
الصدق باللسان، والكذب بالقلب.. الظاهر الحسن، والباطن الخبيث.
وهكذا.. فالمنافق شخصان، بعيش أحدهما مع الناس، ويعيش الآخر في كيان صاحبه.. أو هو شخصية مزدوجة، يكاد ينفصل ظاهرها عن باطنها.
قوله تعالى: {سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ}.
هو تيئيس للمنافقين من أن ينالوا مغفرة اللّه، سواء أجاءوا إلى النبيّ يطلبون أن يستغفر لهم، فاستغفر لهم، أو لم يستغفر لهم.. فإن اللّه سبحانه لا يغفر لهم، لأنهم لم يجيئوا إلى النبيّ إلا على طريق من نفاق، ولم يتحدثوا إليه إلا بألسنة منافقة، ومن هنا لم يقبل استغفار رسول اللّه لهم، كما لم تقبل توبتهم.
إنهم تابوا إلى اللّه بألسنتهم دون قلوبهم.. إنهم فاسقون، قد خرجوا من الإيمان بعد أن دخلوا فيه.. {إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ}.